الجسد هو المظهر المادي للوجود الإنساني، والمساس به بانتهاك تكامله
وانسجامه وجماله، هو تعبير عن حالة شعورية غير متوازنة، فالجسد منوط بوظائفه
البيولوجية التي ينجزها لكي تستمر الحياة، وفي تشويه صورته المادية بالبتر والمسخ
تعطيل لوظائفه، وطمس لهويته، وإلباسه هوية أخرى، يعبر عنها مظهره الخارجي
المشوه.وللجسد المشوه في شعر صلاح عبدالصبور، أنماط مختلفة، كلها تشترك في سمة
الانتهاك لانسجام وتناسق الجسد الإنساني، والعبث بأعضائه، للتعبير عن حالة من
اختلال المجتمع أو السلطة أو الإنسان نفسه.
ومن أنماط التشويه الجسدي "البتر" أي القطع، ويعبر عنه
بمرادفات نحو الجدع والجذّ، بحيث يصاب الجسد بعاهة من جراء استئصال وقطع عضو منه،
يقول في مقطع من قصيدة " الظل والصليب":
قلتمُ لي:
لا تدسس أنفَك فيما يعني جارَكْ
لكني أسألكمْ أن تعطوني أنفي
وجهي في مرآتي مجدوعُ الأنف ( الأعمال
الشعرية الكاملة، ص206).
الأنف في الموروث العربي له دلالة الشموخ فهم يقولون "رجل حَمِيُّ
الأَنـْف إذا كان أَنِفاً يأْنَفُ أَن يُضامَ"[1]،
ويقال للمتكبر: "ورِمَ أنفُهُ". وقد حرصوا على" ذكر الأَنْف دون
سائر الجسد لأنه يقال شمَخ بأَنْفه، يريد رفع رأسه كِبْرا، "[2]. وفي
جدع الأنف قطع واستئصال لموضع الأنفة والشموخ، إن صورة الإنسان المجدوع أنفه صورة
مشوهة تعبر عن خضوع وامتهان وفضلا عما
فيها من فقدان العزة، يستثمرها صلاح عبدالصبور في بناء مفارقة ساخرة من جور
السلطة، الطرف الأول فيها النصيحة المسداة للشاعر " لاتدسس أنفك فيما يعني
جارك" وهي حكمة تساق للتحذير من التدخل في شؤون الآخرين، يعجز الشاعر عن
الوفاء بها، وعجزه عن ضعف وهزيمة " فالدكتاتورية قطعت أنف الشاعر خوفا من أن
يدسه فيما لايعنيه فعاش مستلب الحرية"،[3] و يستجدي الناصحين أن يعيدوا
إليه أنفه المجدوع، أي يعيدوا إليه حريته وكرامته، فالطرف الثاني في المفارقة يهدم الدلالة
التحذيرية، ويعطل فاعليتها وجدواها فبسبب القمع والكبت والإسكات، لم يعد للنصيحة
معنى، فكيف يدس أنفه وهو مجدوع؟ وقد عبر الأنف بوصفه عضوا جسديا عن هذه الدلالات
برمزية رفيعة.
ومن نماذج الجسد المشوّه، إصابته بالجذّ، وهو صنو الجدع، كقوله:
ولننكسرْ في كل يومٍ مرتينْ
فمرةً حين نقابل الضياءْ
ومرةً حين تذوب الشمس في الغروبْ
فقد أردنا أن نرى أوسعَ من أحداقنا
وأن نطول باليد القصيرة المجذوذة الأصابع
سماءَ أمنيّاتنا (الأعمال الشعرية الكاملة ،ص243)
تجسد الأبيات حالة من العجز واليأس تحول بين الذات وبين بلوغها أمنياتها
وتحقيق طموحاتها، ويوظف الشاعر لغة الجسد للتعبير عن هذا المعنى، ونلمح مضمون
المثل الشعبي" العين بصيرة واليد قصيرة"، فاتساع الحدقة هو كناية عن
التطلّع والرغبة في تحقيق الأمنيات، وهي حركة إيجابية في لغة الجسد ترتبط عادة بما
يثير الدهشة أو الإعجاب، ولكن اليد قصيرة مجذوذة الأصابع، واليد عضو جسدي فاعل
ترمز للإرادة والقوة، وإنجاز العمل، وهي هنا معطلة عن وظيفتها تعجز عن الوفاء بما
يطلب منها، فلا تلبي مطالب الذات في تحقيق طموحاتها، والدلالة الرمزية في تشويه
اليد بقصرها كناية عن العجز، والأصابع المجذوذة فضلا عمّا فيها من دلالة العجز
والضعف، فيها إيحاء بالقهر والظلم والاعتداء فالدلالة الصرفية لاسم المفعول"
مجذوذ" تعني أن تسلطا مُورس عليها واضطهادا سلبها كمالها بجذّها. والتشويه
هنا معبر عن استلاب الذات وانكسارها حتى أنها تقضي سائر يومها صباحا ومساء، منكسرة
تدفع ثمن طموحاتها غير المشبعة.
ومن التشويه سمل العينين،"وسَمْلُ العَيْنِ: فَقْؤُها، يقال:
سُمِلَتْ عينُه تُسْمَل إِذا فُقِئَتْ بحديدة مُحْماةٍ،"[4] وهو
لون من التعذيب الجسدي بوحشية عرف في بعض الثقافات والأساطير والحضارات، ينجم عنه
تشويه للعين، ومن نماذجه لدى صلاح عبدالصبور، قوله:
وقلتم:
يا أيها المغني غنّنا
مُسَمَّلَ العينين في حضرتنا
لحنا يثير زهونا
ويذكر انتصارنا (الأعمال الشعرية الكاملة، ص293).
هذه الأبيات من قصيدة طويلة ذات حس درامي هي: " حكاية المغني
الحزين" الذي يغني في بلاط السلطان، وتكون نهايته الطرد والتشرد، لأن صوته
ولحن غنائه يفضح حزنه وما يحمله من وحشة في مكان آهل باللصوص والمنافقين والخونة،
في ذلك المساء طُلب من المغني أن يغني بحضرتهم غناء يرضي غرورهم، ويلّمع
انتصاراتهم، و هيئة المغني هيئة مشوهة جسديا فعيناه مفقوءتان، الترميز الذي يريد
نقله صلاح عبدالصبور هو المفارقة بين الغناء ومافيه من طرب ونشوة، ومؤديه المشوّه
الذي أُريد له أن يكون بهذه الهيئة لكي لا يرى مايعج في بلاط السلطة من تجاوزات،
ومع فقدانه لبصره بصورة بشعة، لم يستطع كتمان حزنه، و تمثيل الفرح، فنغمة صوته
الحزين وشت به.
وترد العيون المسملة لبناء صورة فنية دالّة على البشاعة، كقوله:
الحزن قد سمل العيون
الحزن قد عقد الجباه (الأعمال الشعرية الكاملة، ص128).
فالحزن الذي يتكرر كثيرا في شعر صلاح عبدالصبور ، ويتفنن في التعبير عنه،
يشخّصه هنا في صورة عنيفة شرسة، فهو أداة فتك وبطش لا يختلف عن الآلة الحادّة التي
تتخذ وسيلة لسمل العين، فالإحساس بقسوة الحزن وتعذيبه للروح، وإيلامه النفسي،
يبرزه الشاعر في صورة جسدية مرئية للعيون المفقوءة، فالتدمير الشعوري يضاهي
ببشاعته التشويه الجسدي، ويعضّد من صورة الوجه المشوه، بحركة جسدية هي:" عقد
الجباه"، وهي من الإيماءات والتعبيرات الدالة على إحساس سلبي كالحزن وعدم
الرضا والغضب. وانتقاء السمل بدلا من العمى مع أن كلا منهما يفيد فقد البصر، ذلك
لأنه أعمق أثرا في تضمنه التشويه والتخريب والتعذيب الجسدي.
والإحساس الحادّ بالألم من جراء تناقضات العالم والناس، يترجم عنه صلاح
عبدالصبور بانتهاك وحدة الجسد وكماله وجماله، والعبث بالخلقة، فيمسخ صورة الإنسان
إلى صورة كائن مشوّه غريب، و"المَسْخُ: تحويل صورة إِلى صورة أَقبح منها؛ وفي
التهذيب: تحويل خلْق إِلى صورة أُخرى؛ مَسَخه الله قرداً يَمْسَخه وهو مَسْخ
ومَسيخٌ، وكذلك المشوّه الخلق"[5].ومن
نماذج المسخ في شعر صلاح عبدالصبور، قوله:
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك! (الأعمال الشعرية الكاملة ، ص208).
إن الأحوال المقلوبة المتردية، والأوضاع غير المنطقية التي تسود العالم
العربي، أوحت للشاعر بهذه الصورة البشعة، لم يعد الإنسان إنسانا في خلقته الطبيعية
السوية يحمل رأسه بوعي لأفعاله وسلوكه، فرأسه هو رأس حيوان، أي جثة بلا عقل،
والجثة الحيوانية تحمل رأسا بشريا، فالحق غائب في هذا الزمن الذي يكثر فيه القتل
دونما سبب، والمسخ يعكس اضطراب الأوضاع، فتحول البشر إلى كائنات ممسوخة محو للهوية
الإنسانية، وكأن العالم كله كائنات مشوّهة تحيا بلا وعي. وربما نلمح استيحاء
أسطوريا في تركيب الرؤوس الحيوانية على أجساد الناس، فالسفينكس كائن أسطوري ورد
في( قصة أوديب) هو الوحش الرابض على باب مدينة طيبة يطرح اللغز ، ويقتل كل من يخفق
في فك شفراته، تصوره الميثولوجيا الإغريقية برأس امرأة وجسد أسد وذنب أفعى، لربما
أراد صلاح نقد استبداد الناس واستحالتهم إلى وحوش يقتلون كل من لايلبي مطالبهم .
والتعبير بالجثث عوضا عن الأجساد يوحي بأن الناس كالتماثيل، فالإنسان " لا
يقال له جُثَّة، إِلاّ أَن يكون قاعداً أَو نائماً،"[6]هذه
الصورة تنعدم فيها الفاعلية والحركة، وترسخ هيئة الكائنات المشوّهة وكأنها تماثيل
منحوتة تملأ الأرض مواتا " ونعتبرها من أحسن ما صوره الشاعر صلاح عبدالصبور
لحالة العربي في معايشته لواقعه المتردي وتعامله مع أحداث العالم وركونه، أو
استسلامه عن تغيير حالة خاصة بعد النكبات والأزمات المتعددة التي مرت به، ويظل
يعايشها"[7].
التناسق الجسدي والانسجام الخلَقي يعكس روحا متوازنة، والمسخ حالة من
الاختلال تعبر عن حالة سلبية، يوظف صلاح عبدالصبور أعضاء الجسد المشوّه لأداء هذا
المعنى في عدّة سطور من قصيدة " مذكرات الصوفي بشر الحافي" فازدراء
الدنيا، ولهاث الإنسان في فجاجها، و صراعه فيها مما تقوله القصيدة في مغزاها من
توظيف شخصية الصوفي بشر، وسأجتزئ مايخدم فكرة الجسد المشوّة التي يعبر بها صلاح عن
القبح ، يقول فيها:
حين فقدنا جوهر اليقينْ
تشوّهت أجّنة الحبالى في البطونْ
الشَّعرُ ينمو في مغاور العيونْ
والذقن معقود على الجبينْ
جيلٌ من الشياطينْ
جيل من الشياطينْ (الأعمال الشعرية الكاملة ، ص285).
الرضا بالقضاء والقدر والقناعة واليقين حين تسكن الجسد، تملؤه طمأنينة
وطاقة روحانية، وحين تسلب منه هذه الأحاسيس تنعكس على الجسد اضطرابات واعتلالات
تظهر عليه، يتجاوز صلاح هذه الظاهرة الحسية المعروفة علميا، إلى تضخيم عواقبها
بالتشويه الذي يطال الأجنة، فانعدام اليقين لا يقتصر أثره الوخيم على صاحبه، بل
يمتد لنسله، وكأنه مرض وراثي يسري في عقبه، فتتحول السلالة البشرية إلى كائنات
ممسوخة الخلقة من جراء الخواء الإيماني بالقدر، رسمها بقبح في قوله :"
الشَّعرُ ينمو في مغاور العيونْ /والذقن معقود على الجبينْ"، ويشبههم في
صورتهم القبيحة بالشياطين و" الشيء إذا اسْتُقْبح شُبِّه بالشياطين فيقال
كأَنه وجه شيطان وكأَنه رأْس شيطان، والشيطان لا يُرى، ولكنه يُسْتَشْعَر أَنه
أَقبَح ما يكون من الأَشياء، ولو رُؤِيَ لَرُؤِيَ في أَقبح صورة."[8] وفي
موضع آخر من القصيدة نفسها يعود صلاح لتقبيح الحياة من خلال صورة الجسد المشوّه
فهذه الجملة:" لرأيت الدنيا مولودا بشعا" امتداد للجنين المشوّه، فالطفل
الوليد رمز للطهر والجمال والنقاء، لكنه هنا مخاتل لهذا التوقع فهو مولود بشع
والبشاعة وصف لهيئته الجسدية.
ومن نماذج الجسد المشوّه، تقبيحه في إطار صورة فنية، يرسم فيها الشاعر
ملامح قبيحة منفرّة، كما في المقطع الثالث المعنون ب(نزهة الجبل) من قصيدة"
رحلة في الليل" يقول صلاح:
الطارقُ المجهولُ يا صديقتي مُلثّمٌ شريرْ
عيناه خنجران مَسْقيان بالسموم
والوجهُ من تحت اللثام وجهُ بوم
لكنَّ صوتَهُ الأجشَّ يشدخُ المساءْ
"إلى
المصير" والمصيرُ هُوَّةٌ تُرَوِّعُ الظنونْ
وفي لقائِنا الأخير يا صديقتي، وعدتني بنزهةٍ على الجبل
أريدُ أن أعيشَ كي أشمُّ نفحةَ الجبل
لكن هذا الطارق الشريرَ فوق بابيَ الصغيرْ
قد مدَّ من أكتافِه الغلاظ جذعَ نخلةٍ عقيمْ
وموعدي المصيرُ، والمصيرُ هوّة تروّع الظنون (الأعمال الشعرية الكاملة ،
ص110).
يفزع الشاعر من المستقبل الذي ينتظره، فهو ومحبوبته يحلمان بالصفاء وعالم
تملؤه الطمأنينة، تمثله رغبتهما في قضاء نزهة جبلية، يتنفسان فيها نفحات هواء عليل
كناية عن نشدانهما لعالم مثالي و توقهما التخلص من قسوة الواقع ووطأته، ويصطدم
الشاعر بالمجهول الذي يبدد طموحاته، ويهدّده بمصير مريع، يجسّد الشاعر المستقبل
المجهول، والمخاوف التي تعرقل أمنه بكائن ملثم شرير، و"تتفجّر في ذاكرتنا
صورة لمخلوق يحترف الشر، لا لأن النص يصفه بذلك وصفا صريحا لا لبس فيه، ولاغموض،
ولكن لأن اللثام يعني إخفاء الهُوية بإخفاء قسمات الوجه، وهو مايشير إلى مناخ الشر
والتواطؤ والتآمر"[9]
ولإضفاء مسحة أسطورية غامضة ومخيفة من هذا المجهول، يشخّصه الشاعر في
صورة كائن قبيح، ويحشد عددا من المفردات
الدّالة على القبح والذعر في بناء صورة مقزّزة، فعيناه التي تبرزان من فوق
اللثام أشبه بخنجرين مسمومين، واللثام يخفي وجها كالبوم، والبومة في عالم الخرافات
والأساطير تدل على إيحاءات سلبية منها الشؤم والغموض واللؤم والشر، ويصف صوت هذا
الكائن المخيف بأنه صوت أجش، أي"صوت غليظ فيه بُحّة يَخْرج من
الخَياشِيم،"[10] هذا
الصوت يشدخ المساء، والدلالة المعجمية ليشدخ تعني التهشيم والتكسير، ويتحول الصوت
هنا إلى أداة تدميرية، فنبرته الغليظة تنبئ عن مصير مخيف لايبدّد هدأة المساء كما
ماهو مألوف بل يهشّمه، يتربص هذا الكائن بالشاعر ولإضفاء هالة أسطورية مرعبة يقف
على بابه الصغير، و" قد مد من أكتافه الغلاظ جذع نخلة عقيم"، فالعجز
والضعف الظاهر على الشاعر يوحي به الباب الصغير، فهو وإن كان دالا على الانفتاح،
والمنفذ الذي يخرج منه الخائف المذعور، لكنه هنا صغير ومسدود بضخامة جثة هذا
الشرير وصلابتها كجذع نخلة لا يستطيع الشاعر مقاومتها، يتحسس الشاعر انتقاء مفردات
تخدم غايته، فوصف الجذع بأنه عقيم تحديدا لا طويل أو عريض، لكونها صفات معلومة من
الجذع، ستبدو فضلة إن ذكرت، بينما عقيم، إيحاء باليباس و موت الحياة، وانسداد
أبواب الأمل.
[2] أبو الحسين أحمد بن فارس
بن زكرياء القزويني الرازي، مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار
الفكر، 1979م، مادة:( أ.ن.ف).
[3] عفيف فراج، دراسات في الفلسفة والفكر والدين والسياسة والثقافة والأدب، دار الفارابي،
بيروت- لبنان، ط1، 2014م، ص313.
[4] ابن منظور، لسان العرب، مادة (س. م.ل).
[7] معاشو بو وشمة، الأسطورة في شعر صلاح عبدالصبور، مذكرة لنيل شهادة
الماجستير، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، جامعة وهران-السانيا- كلية
الآداب واللغات والفنون، قسم اللغة العربية وآدابها، 2012م، ص 80. وانظر المصدر
نفسه، ص 66.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق