هذا الكون الشاسع ينتظم بدقة متناهية، وتناسق بديع، لكل شيء فيه حدوده، وهيئته، نعيش الحياة في إطار محدد، وحيز مكاني وزماني، وتجاربنا لا تنفصل عن إيقاع الزمان، ولا حدود المكان، وهذا ما يفسر استحواذ موضوع الزمان والمكان على مساحة واسعة من الاهتمام في الدراسات الأدبية والنقدية؛ لشغف المبدعين شعراء وناثرين في التعبير عنهما في أعمالهم الإبداعية. أتأمل في هذه المقالة ظاهرة النزوع إلى تجاوز المكان والزمان، فالمبدع يتوق إلى أرض غير معروفة، وزمن غير معاش. وأعني بالتجاوز تحديد مكان وزمان يقع خارج مفهومهما، نحو: (الساعة 25)،(جهة خامسة)، (سماء ثامنة). فهذه العبارات لها دلالتها النفسية والاجتماعية وليست لعبة مجازية فحسب. فاليوم يضبط بوحدات زمنية هي الثواني والدقائق والساعات، ونستعين بهذه الوحدات الزمانية على تنظيم حياتنا، ولنا أن نتساءل كيف نضبط مؤشر الساعة على الساعة الخامسة والعشرين؟ إنها زمن تالٍ للأربع وعشرين ساعة التي نعيشها، هي ساعة الخلاص من كل أوجاع وآلام اليوم التي لم تنته، ولا حل إلا بانقضاء الزمن نفسه، ربما تكون رواية (الساعة الخامسة والعشرون) لقسطنطين جيورجيو مثالاً على هذا الزمن الذي لا يأتي ولن يأتي، فالشخصيات مأزومة، منهكة، تعيش حالة انسحاق واستلاب في مجتمع صناعي لا يأبه بالإنسان، يقول عن رمزية هذا الزمن د.عبدالله إبراهيم في مقدمة الرواية: «وما الساعة الخامسة والعشرون إلا تلك الساعة التي يتعذّر فيها على الإنسان النجاة بحياته من هلاك مؤكد، هي اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ عديمة الجدوى، بل إن قيام المسيح نفسه لن يجدي فتيلا، إنها ليست الساعة الأخيرة، بل هي ساعة ما بعد الساعة الأخيرة» (الرواية: ص6). يبدو أن البحث عن الفردوس والهروب من الجحيم الأرضي هو الحلم الطوباوي الذي شكّل حساسية أدبية أنتجت لنا أزمنة تخرق المفهوم الفيزيائي للزمان، وأمكنة تكسر الحدود الجغرافية، وأقف عند ديوان (وحيداً من جهة خامسة) لإبراهيم الوافي، وأتساءل أيضاً: إلى أين يولي الشاعر وجهه؟ فالجهات الأربع شرقاً وغرباً وشمالًا وجنوباً، زادت الآن جهة غير معلومة على الخريطة هي الجهة الخامسة؟ وهي الموقع الذي يختاره الشاعر ملاذاً له، وكأن الجهات ضاقت به، فتملكته الرغبة في الانعتاق من الواقع، إلى عوالم أكثر رحابة لا تضيق به وتحتويه، تعبر كلمة (وحيداً) عن الذات الرومانسية الحالمة التي تكتفي بنفسها، وتعتزل العالم مختارة، توقاً إلى مكان لا يجاورها فيه كائن سواها فقط، بعيداً عن ضجيج الحياة. الديوان لا يحمل عنواناً لقصيدة، لكي نلتقط منه كشفاً لهذه الجهة، ووسم العمل الإبداعي هنا تعبير عن حالة شعورية هاربة من الجغرافيا، ربما هذا السطر الشعري يوحي بالمعنى: «إذا فالقيافة أن نكتب الشعر من غير خارطةٍ» (الديوان: ص5). ويقال مثل هذا عن تفسير (السماء الثامنة) فما الذي تحويه السماء الثامنة، والخالق سبحانه لسبع سماوات «أَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا» فصلت:12. علّمتنا الأرض أن ندور مثلها دورة حول ذواتنا وأخرى حول الشمس التي نلهث تحت سعيرها، حين نبتكر دورة ثالثة سيتغير وجه العالم!
http://www.alyamamahonline.com/ItemDetails.aspx?articleId=228
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق